فصل: خلافة المأمون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة الأمين:

وهو سادسهم، ولما توفي الرشيد بويع للأمين بالخلافة، في عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد، وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين، بوفاة الرشيد، مع رجاء الخادم، وأرسل معهُ خاتم الخليفة، والبردة والقضيب، ولما وصل إلى الأمين ببغداد، أخذت له البيعة ببغداد، وتحول إلى قصر الخلافة، ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة، ومعها خزائن الرشيد، فتلقاها ابنها الأمين بالأنبار ومعه جميع وجوه بغداد، وفي هذه السنة قتل تقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه سبع سنين.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة وفي هذه السنة اختلف أهل حمص على عاملهم إسحاق بن سليمان، فانتقل عنهم إلى سلمية، فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرسي، فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم. وفي هذه السنة قتل شقيق البلخي الزاهد في غزوة كولان من بلاد الترك.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة:
فيها أبطل الأمين اسم المأمون من الخطبة، وكان أبوهما قد عهد إلى الأمين، ثم من بعده إلى المأمون حسب ما ذكرناه، فخطب لهما إلى هذه السنة، فقطعها الأمين، وخطب لابنه موسى بن الأمين، ولقبه الناطق بالحق. وكان موسى طفلاً صغيراً، ثم جهز الأمين جيشاً لحرب المأمون بخراسان، وقدم عليهم علي بن عيسى بن ماهان، وكان طاهر بن الحسين مقيماً في الري من جهة المأمون ومعه عسكر قليل، وسار علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفاً، حتى وصل إلى الري، والتقى العسكران، فخلع طاهر بيعة الأمين وبايع المأمون بالخلافة، وقاتل علي بن عيسى بن ماهان قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الأمين، وقتل علي بن عيسى بن ماهان، وحمل رأسه إلى طاهر، فأرسل طاهر بالرأس وبالفتح إلى المأمون، وهو بخراسان.
وفي هذه السنة توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة:
في هذه السنة سير الأمين جيشاً صحبة أحمد بن مرثد، وعبد الله بن حميد بن قحطبة، ومع كل واحد عشرون ألف فارس، فساروا إلى حلوان لحرب طاهر، فلما وصلوا إلى خانقين وقع الاختلاف بينهم، فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهراً، فتقدم طاهر فنزل حلوان، ولحقه هرثمة بجيش من عند المأمون، وكتاب يأمره فيه أن يسلم ما حوى من المدن والكور إلى هرثمة، وأن يتوجه طاهر إلى الأهواز، ففعل ذلك، وأقام مرثمة بحلوان، ولما تحقق المأمون قتل ابن ماهان وانهزام عساكر الأمين، أمر أن يخطب له بإمرة المؤمنين، وأن يخاطب بأمير المؤمنين، وعقد للفضل بن سهل على المشرق، من جبل همدان إلى التبت طولاً، ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضاً، ولقبه ذا الرياستين، رياسة الحرب والقلم، وولىّ الحسن بن سهل ديوان الخراج، وذلك كله في هذه السنة، ثم استولى طاهر على الأهواز، ثم على واسط، ثم على المدائن، ونزل صرصر.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة:
في هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة بالعساكر الذين صحبتهما بغداد، وحصروا الأمين، ووقع في بغداد النهب والحريق، ومنع طاهر دخول الميرة إلى بغداد، فغلت بها الأسعار ودام الحصار وشدة الحال، إلى أن انقضت هذه السنة.
وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين ومائة، توفي إبراهيم بن الأغلب عامل إفريقية، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة أربع وثمانين ومائة ولما توفي تولى على إفريقية بعد ولده أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة:
استيلاء طاهر على بغداد وقتل الأمين:
في هذه السنة هجم طاهر على بغداد بعد قتال شديد، ونادى مناديه: من لزم بيته فهو آمن. وأخذ الأمين أمه وأولاده إلى عنده بمدينة المنصور، وتحصن بها؛ وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه، وحصره طاهر هناك، وأخذ عليه الأبواب، ولما أشرف على أخذه، طلب الأمين الأمان من هرثمة، وأن يطلع إليه فروجع في الطلوع إلى طاهر، فأبى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج الأمين بعد عشاء الآخرة وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فأرسل إليه هرثمة يقول: إني غير مستعد لحفظك، وأخشى أن أُغلب عنك، فأقم إلى الليلة القابلة، فأبى الأمين إلا الخروج تلك الليلة، ثم دعا الأمين لابنيه وضمهما إليه وقبلهما وبكى، ثم جاء راكباً إلى الشط، فوجد حراقة هرثمة، فصعد إليها، فاحتصنه هرثمة وضمه إليه، وقبل يديه ورجليه ثم شد أصحاب طاهر على حراقة هرثمة حتى غرقوها، فأخرج الملاح هرثمة من الماء، وأما الأمين فلما سقط في الماء، شق ثيابه، ثم أخذ بعض أصحاب طاهر الأمين وهو عريان عليه سراويل وعمامة، فأمر به طاهر فحبس في بيت، فلما انتصف الليل، أرسل إليه طاهر قوماً من العجم فقتلوه وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر، فنصبه على برج من أبرجة بغداد، وأهل بغداد ينظرون إليه.
ثم أرسل طاهر رأس الأمين إلى أخيه المأمون وكتب بالفتح، وأرسل البردة والقضيب، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، وصلى بالناس وخطب للمأمون، وكان قتل الأمين لست بقين من المحرم، سنة ثمان وتسعين ومائة، وكانت مدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسراً، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة، وكان سبطاً أنزع صغير العينين، أقنى جميلا طويلاً وكان منهمكاً في لذات وشرب الخمر، حتى أرسل إلى جميع البلاد في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقسم الأموال والجواهر في خواصه، وفي الخصيان والنساء، وعمل خمس حراقات في دجلة، على صورة الأسد، وعلى صورة الفيل وعلى صورة العقاب، وعلى صورة الحية، وعلى صورة الفرس، وأنفق في عملها مالا عظيماً، وذكر ذلك أبو نواس في شعره فقال:
سخر الله للأمين مطايا ** لم تسخر لصاحب المحراب

فإذا ما ركابه سرْنَ براً ** سار في الماء راكباً ليثُ غاب

عجب الناس إذ رَأوك عليه ** كيف لو أبصروك فوق العقاب

ذات سور ومنسر وجناحي ** ن تشق العباب بعد العباب

.خلافة المأمون:

ولما قتل الأمين، استوثق الأمر في المشرق والمغرب للمأمون، وهو لهم، فولى الحسن بن سهل أخا الفضل، على كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة.
فيها ظهر ابن طباطبا العلوي، وهو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بالكوفة، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وكان القيم بأمره، أبو السرايا السري بن منصور، وبايعه أهل الكوفة واستوثق له أهلها، فأرسل إليه الحسن بن سهل بن زهير بن المسيب الضبي، في عشرة آلاف مقاتل، فهزمهم ابن طباطبا واستباحهم، وكانت الوقعة في جمادى الآخرة من هذه السنة، فلما كان مستهل رجب، مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأة، سمه أبو السرايا ليستبد بالأمر، لأنه علم أنه لا حكم له مع ابن طباطبا، وأقام أبو السرايا غلاماً يقال له ابن زيد، من ولد علي بن أبي طالب، صورة مكان ابن طباطبا، ثم استولى أبو السرايا على البصرة وواسط، وجرى بينه وبين عساكر المأمون عدة وقائع يطول شرحها.
وفي هذه السنة توفي والد طاهر، وهو الحسين بن مصعب، بخراسان، وأرسل المأمون يعزي ابنه طاهراً بأبيه.
وفيها توفي عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، وكنيته أبو هاشم، وهو والد محمد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري.
ثم دخلت سنة مائتين:
فيها في المحرم هرب أبو السرايا من الكوفة في ثمان مائة فارس، بعد أن حاصره هرثمة ودخل هرثمة الكوفة وآمن أهلها، وسار أبو السرايا إلى جلولاء وتفرق عنه أصحابه، فظفر به حماد الكندغوش، فأمسك أبا السرايا ومن بقي معه، وأتى بهم إلى الحسن بن سهل وهو بالنهروان، فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إلى المأمون، وكان بين خروج أبي السرايا وقتله عشرة أشهر.
وفي هذه السنة ظهر إبراهيم بن موسى بن عيسى بن جعفر بن محمد العلوي وسار إلى اليمنٍ، وبها إسحاق بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عاملاً للمأمون، فهرب من إبراهيم بن موسى العلوي المذكور، واستولى إبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزار، لكثرة من قتل وسبى.
وفي هذه السنة سار هرثمة من الكوفة بعد فراغه من أمر أبي السرايا، إلى جهة المأمون، ووردت عيه مكاتبات المأمون بالمسير إلى الشام والحجاز، فحملته الدالية وكثرة مناصحته، على القدوم على المأمون ومخالفة مرسومه، وكان بينه وبين الحسن ابن سهل عداوة، فدس الحسن بن سهل أصحاب المأمون بالحض على هرثمة، وكان يظن هرثمة أن قوله هو المقبول في حق الحسن بن سهل، فقدم على المأمون بمرو في ذي القعدة هذه السنة، أعني سنة مائتين، فلما حضر هرثمة بين يدي المأمون، ضربه وحبسه، ثم دس إليه من قتله في الحبس وقالوا مات.
وفي هذه السنة أمر المأمون أن يحصى ولد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً، بين ذكر وأنثى.
وفيها قتلت الروم ملكهم الليون، وملك عليهم ميخائيل. وفيها توفي معروف كرخي الزاهد، صاحب الكرامات، وكان أبو معروف نصرانياً.
ثم دخلت سنة إحدى ومائتين:
فيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها على الناس، حتى قطعوا الطريق، وأخذوا النساء والصبيان علانية و نهبوا القرى مكابرة، وبقي الناس معهم في بلاء عظيم، فتجمع أهل بعض المحال ببغداد، مع رجل يقال له خالد بن الدريوس، وشدوا على من يليهم من الفساق فمنعوهم وطردوهم، وقام بعده رجل يقال له سهل بن سلامة الأنصاري، من أهل خراسان، وردع الفساق، واجتمع إليه جمع كثير من أهل بغداد، وعلق مصحفاً في عنقه، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فقبل الناس منه وكان قيام سهل المذكور لأربع خلون من رمضان، وقيام ابن الدريوس قبله بنحو ثلاثة أيام.
وفي هذه السنة جعل المأمون علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولي عهد المسلمين، والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من رمضان، من هذه السنة، وصعب ذلك على بني العباس، وكان أشدهم تحرقاً في ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي، وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة، وكان المتحدث في أخذ البيعة لعلي بن موسى في بغداد. عيسى بن محمد بن أبي خالد.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة خاض الناس ببغداد في البيعة لإبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلع المأمون، لأنهم نقموا على المأمون توليته الحسن بن سهل، وجعله الخلافة في آل علي بن أبي طالب، وإخراجها عن بني العباس فأظهر العباسيون الخلاف، لخمس بقين من ذي الحجة، ووضعوا يوم الجمعة رجلاً يقول إنا نريد أن ندعو للمأمون وبعده لإبراهيم بن المهدي، ووضعوا آخر يجيبه، بأنا لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وبعده لإسحاق بن موسى الهادي، وتخلعوا المأمون، ففعلوا ذلك، فتفرق الناس من الجامع، ولم يصلوا الجمعة.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، صاحب إفريقية، وتولى بعده أخوه زيادة الله بن إبراهيم.
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبة والي طبرستان جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شهريار بن شروين عنها وأسر أبا ليلى ملك الديلم.
ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين:
البيعة لإبراهيم بن المهدي:
بايعه أهل بغداد بالخلافة، في المحرم من هذه السنة، أعني سنة اثنتين ومائتين. ولقب المبارك بعد أن خلعوا المأمون، وكان المتولي لبيعته، المطلب بن عبد الله بن مالك، واستولى إبراهيم على الكوفة وعسكر بالمدائن، واستعمل علي الجانب الغربي من بغداد، العباس بن موسى الهادي، وعلى الجانب الشرقي، إسحاق ابن الهادي، ولما تولى إسحاق المذكور، ظفر بسهل بن سلامة الذي ظهر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقمع الفساق، فتفرق عنه أصحابه وأمسكه إسحاق وبعث به إلى إبراهيم بن المهدي إلى المدائن، فضربه وحبسه.
مسير المأمون إلى العراق وقتل ذي الرياستين:
وفي هذه السنة، سار المأمون من مرو إلى العراق، واستخلف على خُرَاسان غسان بن عباد وكان سبب مسيره ما وقع في العراق من الفتن، في البيعة لإبراهيم بن المهدي، ولما أتى المأمون سرخس، وثب أربعة أنفس بالفضل بن سهل، فقتلوه في الحمام، لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة، أعني سنة اثنتين ومائتين، وكان عمره ستين سنة، وجعل المأمون لمن أمسكهم عشرة آلاف دينار، فأمسكهم العباس ابن الهيثم الدينوري، وأحضرهم إلى المأمون فقالوا: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم.
ورحل المأمون طالباً العراق، وبلغ إبراهيم بن المهدي، والمطلب الذي أخذ البيعة لإبراهيم وغيرهما، قدوم المأمون، فتمارض المطلب، وراح إلى بغداد، وسعى في الباطن في أخذ البيعة للمأمون، وخلع إبراهيم، وبلغ إبراهيم ذلك وهو في المدائن فقصد بغداد وأرسل في طلب المطلب، فامتنع عليه، فأمر بنهبه، فنهبت دور أهله، ولم يظفروا بالمطلب، وذلك في صفر من هذه السنة.
وفي هذه السنة عقد المأمون العقد على بوران لنت الحسن بن سهل، وزوج المأمون ابنته من علي بن موسى الرضا.
وفي هذه السنة توفي أبو محمد اليزيدي، وهو يحيى بن المبارك بن المغيرة المقرئ صاحب أبي عمرو بن العلاء، وإنما قيل له اليزيدي، لأنه صحب يزيد بن منصور، خال المهدي، وكان يعلم ولده.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين:
في هذه السنة في صفر مات علي بن موسى الرضا بأن أكل عنباً فأكثر منه فمات فجأة بطوس وصلى عليه المأمون، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد، وكان مولد علي بالمدينة، سنة ثمان وأربعين ومائة، ولما مات، كتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم بموت علي الرضا، وقال: إنما نقمتم علي بسببه، وقد مات، وكان يقال لعلي المذكور، علي الرضا وهو ثامن الأئمة الاثني عشر، على رأي الإمامية، وهو علي الرضا بن موسى الكاظم المقدم ذكره، في سنة ثلاث وثمان مائة، ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب، وعلي الرضا المذكور هو والد محمد الجواد تاسع الأئمة وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين، خلع أهل بغداد إبراهيم المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة، وتخلى عن إبراهيم صحابه، فلما رأى إبراهيم ذلك فارق مكانه واختفى، ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة، من كل السنة، وأحدق حميد، أحد قواد المأمون بدار إبراهيم بن المهدي، فلم يجده في الدار، فلم يزل إبراهيم متوارياً حتى قدم المأمون إلى بغداد، وكانت أيام ولاية إبراهيم نحو سنة وأحد عشر شهراً، وكسر.
وفي هذه السنة في آخر ذي الحجة وصل المأمون إلىٍ همدان، وكانت بخراسان وما وراء النهر زلازل عظيمة، دامت مقدار سبعين يوماً، فخربت البلاد وهلك فيها خلق كثير وكان معظمها ببلخ والجورجان والفارياب والطالقان، وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل وتغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس، وكتب قواد العسكر الذين كانوا مع الحسن بذلك إلى المأمون.
ابتداء دولة بني زياد ملوك اليمن وذكرهم عن آخرهم:
وكان ينبغي ذكر ذلك مبسوطاً في السنين، ولكن جمعناه ليضبط، بخلاف ما لو تفرق، فإنه كان يصعب التقاطه وضبطه، فنقول: كان ابتداؤها في هذه السنة تاريخ اليمن، لعمارة اليمني قال: كان شخص من بني زياد بن أبيه، اسمه محمد فلان، وقيل ابن إبراهيم بن عبيد الله بن زياد، مع جماعة من بني أمية، قد سلمهم المأمون إلى الفضل بن سهل بن سهل ذي الرياستين، وقيل إلى أخيه الحسن، وبلغ المأمون اختلال أمر اليمن، فأثنى ابن سهل على محمد بن زياد المذكور وأشار بإرساله أميراً على اليمن، فأرسل المأمون محمد بن زياد المذكور، ومعه جماعة، فحج ابن زياد في هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين، وسار إلى اليمن وفتح تهامة، بعد حروب جرت بينه وبين العرب، واستقرت قدم ابن زياد المذكور باليمن، وبني مدينة زبيد، واختطها في سنة أربع ومائتين، وأرسل ابن زياد المذكور مولاه جعفراً بهدايا جليلة إلى المأمون، فسار جعفر بها إلى العراق، وقدمها إلى المأمون في سنة خمس ومائتين، وعاد جعفر إلى اليمن في سنة ست ومائتين، ومعه عسكر من جهة المأمون، بمقدار ألفي فارس، فعظم أمر ابن زياد، وملك إقليم اليمن بأسره وتقلد جعفر المذكور الجبال، واختط بها مدينة يقال لها المديحرة، والبلاد التي كانت لجعفر تسمى إلى اليوم مخلاف جعفر، والمخلاف عبارة عن قطر واسع، وكان جعفر هذا من الكفاة الدهاة، وبه تمت دولة بني زياد، حتى قتل ابن زياد بجعفرة، وبقي محمد بن زياد كذلك حتى توفي.
ثم ملك بعده ابنه إبراهيم بن محمد.
ثم ملك بعده ابنه زياد بن إبراهيم بن محمد، ولم تطل مدته.
ثم ملك بعده أخوه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم، وطالت مدته وأسن وتوفي أبو الجيش المذكور في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة خلف طفلاً واختلف في اسم الطفل المذكور، قيل زياد، وقيل غير ذلك، وتولت كفالة الطفل المذكور أخته هند بنت أبي الجيش، وتولى معها عبد لأبي الجيش اسمه رشد، وبقي رشد على ولايته حتى مات، فتولى موضعه عبده حسين بن سلامة، عبد رشد المذكور، وسلامة المذكورة هي أم حسين، ونشأ حسين المذكور حازماً عفيفاً إلى الغاية، وصار وزيراً لهند، ولأخيها المذكور، حتى ماتا. ثم انتقل ملك اليمن إلى طفل من آل زياد، وقام بأمر الطفل عمته، وعبد من عبيد حسين بن سلامة، اسمه مرجان، وكان لمرجان المذكور عبدان، قد تغلبا على أمور مرجان، اسم أحدهما قيس، والآخر نجاح، ونجاح المذكور هو جد ملوك زيد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فوقع التنافس بين قيس ونجاح عبدي مرجان على الوزارة، وكان قيس؛ عسوفاً ونجاح رءوفاً، وكان سيدهما مرجان يميل مع قيس على نجاح، وكانت عمة الطفل تميل إلى نجاح، فشكا قيس ذلك إلى مولاه مرجان، فقبض مرجان على الملك، قيل كان اسمه إبراهيم، وقيل عبد الله، وعلى عمته، وسلمها إلى قيس، فبنى قيس على إبراهيم وعمته جداراً وختمه عليهما حتى ماتا، وكان إبراهيم المذكور آخر ملوك اليمن من بني زياد، وكان قبض مرجان على إبراهيم وعمته في سنة سبع وأربعمائة فيكون مدة ملك بني زياد لليمن مائتي سنة وأربع سنين، لأنهم تولوا من قبل المأمون في سنة، ثلاث ومائتين، وزال ملكهم في سنة سبع وأربعمائة.
وانتقل ملكهم في سنة سبع و أربعمائة، وانتقل ملكهم إلى عبيد عبيدهم الملك صار لنجاح المذكور، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولما قتل إبراهيم وعمته، تملك، فعظم ذلك على نجاح، واستنصر نجاح الأسود والأحمر، وقصد قيساً في زبيد، وجرى بين نجاح وقيس، حروب عدة، آخرها أن قيساً قتل على باب زبيد، وفتح نجاح زبيد في ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وأربع مائة. وقال نجاح لسيده مرجان: ما فعلت بمواليك وموالينا؟ قال: هم في ذلك الجدار، فأخرج نجاح إبراهيم وعمته ميتين، وصلى عليهما ودفنهما، وبنى عليهما مشهداً، وجعل نجاح سيده مرجان موضعهما، ووضع معه جثة قيس، وبني عليهما ذلك الجدار، وتملك نجاح وركب بالمظلة، وضرب السكة باسمه، واستقل بملك اليمن، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتي عشرة وأربع مائة.
ثم دخلت سنة أربع ومائتين:
قدوم المأمون إلى بغداد:
في هذه السنة قدم المأمون إلى بغداد، وانقطعت الفتن بقدومه، وكان لباس المأمون لما دخل بغداد ولباس أصحابه الخضرة، وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر، ويحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، ودام ذلك ثمانية أيام، ثم تكلم بنو العباس وقواد خراسان في ذلك، فترك الخضرة وأعاد لبس السواد.
وفاة الإمام الشافعي رحمه الله:
وفي هذه السنة، أعني سنة أربع ومائتين، توفي الإمام الشافعي وهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السايب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهذا شافع الذي ينسب إليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأبوه السايب أسلم يوم بدر.
فالشافعي شقيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه، يجتمع معه في عبد مناف، وكانت زوجة هاشم بن المطلب بن عبد مناف بنت عمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف فولد له منها عبد يزيد، جدّ الشافعي، فالشافعي إذن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، لأن الشفاء أخت عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وولد الشافعي سنة خمسين ومائة بغزة، على الصحيح، وقيل في غيرها، وأخذ العلم من مالك بن أنس، ومسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينة، وسمع الحديث من إسماعيل بن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم، قال الشافعي: حفظت القرآن وأنا ابن تسع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر، وقدمت على مالك وأنا ابن خمس عشرة سنة. وقال: رأيت علي بن أبي طالب في منامي، فسلم علي وصافحني؛ وجعل خاتمه في إصبعي، ففسر لي أن مصافحته لي أمان من العذاب، وجعله الخاتم في إصبعي، أنّه سيبلغ اسمي ما بلغ اسم علي، في الشرق والغرب.
وناظر الشافعي محمد بن الحسن في الرقة، فقطعه الشافعي، وكان الشافعي حافظاً للشعر، قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين على محمد بن إدريس الشافعي، وقال أبو عثمان المازني: سمعت الأصمعي يقول قرأت ديوان الشنفري على الشافعي بمكة، وكان أحمد بن حنبل يقول: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه، حتى جالست الشافعي.
وقدم الشافعي إلى بغداد مرتين، مرة في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم قدمها مرة أخرى في سنة ثمان وسبعين ومائة، وناظر بشر المريسي المعتزلي ببغداد، وناظر حفص الفرد بمصر، فقال حفص: القرآن مخلوق، واستدل عليه، فتحاربا في الكلام حتى كفره الشافعي وقد رواه أبو يعقوب البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت كن مخلوقة، فكأن مخلوقاً خلق بمخلوق، قال ابن بنت الشافعي: حدثنا أبي قال: كان الشافعي ينظر في النجوم وهو حدث، وما نظر في شيء إلا فاق فيه، فجلس يوماً وامرأته تطلق، فحسب وقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود، تموت إلى كذا وكذا، فكان كما قال. فجعل على نفسه ألا ينظر فيه بعدها، ودفن الكتب التي كانت عنده في النجوم، وكان الشافعي ينكر على أهل علم الكلام وعلى من يشتغل فيه، وللشافعي أشعار فائقة منها:
وأحق خلق الله بالهم امرؤ ** ذو همة يبلى بعيش ضيق

وله أيضاً:
رعت النسور بقوة جيف الفلا ** ورعى الذبابُ الشهدَ وهو ضعيف

فيها مات الحسن بن زياد اللولوي الفقيه، أحد أصحاب أبي حنيفة، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، صاحب المسند، ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وفيها أعني سنة أربع ومائتين، وقيل سنة ثلاث ومائتين، توفي النصر بن شميل بن خرشة البصري النحوي، سار إلى خراسان من البصرة، ولما خرج من البصرة مسافراً، طلع لوداعه نحو ثلاثة آلاف رجل من أعيان أهل البصرة، فقال النضر: والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلي ما فارقتكم، فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك له، وأقام بمرو من خراسان، وصار ذا مال طائل، وصحب الخليفة المأمون وحظي عنده. وكان يوماً عنده فقال المأمون: حدثنا هشيم عن مخالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عون» وفتح سين سداد، فأعاد النضر الحديث وكسر السين من سداد، فاستوى المأمون جالساً وقال: تلحني يا نضر؟ فقال: إنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما؟ قال: السداد بالفتح، القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكسر، البلغة، وكلما سددت به شيئاً فهو سداد، بكسر السين، وأنشد من أبيات عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالعرجي الشاعر المشهور:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ** ليوم كريهة وسداد ثغر

فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم، وكان النضر من أصحاب الخليل بن أحمد، والنضر بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، ثم راء، وشُميل- بضم الشين- وخرشة بفتح الخاء المعجمة، والعَرج بفتح العين، وسكون الراء، ثم جيم، عقبة بين مكة والمدينة.
ثم دخلت سنة خمس ومائتين:
فيها استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق، من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وفيها توفي يعقوب بن إسحاق بن زيد البصري المقرئ، وهو أحد القراء العشرة، وله في القراءات رواية مشهورة، قرأ على سلام بن سليمان الطويل، وقرأ سلام على عاصم بن أبي النجود وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ علي على صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ست ومائتين:
في هذه السنة مات الحكم بن هشام صاحب الأندلس، لأربع بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته في صفر سنة ثمانين ومائة، ولما توفي كان عمره اثنتين وخمسين سنة، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً. ولما مات قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن بن الحكم.
في هذه السنة توفي محمد بن المسير المعروف بقطرب النحوي، أخذ النحو عن سيبويه وكان يبكر الحضور إلى سيبويه، للاشتغال عليه، قبل الصبح، فقال له سيبوبه: ما أنت إلا قطرب، فغلب عليه ذلك وصار لقبه.
وفيها توفي أبو عمرو إسحاق الشيباني اللغوي.
ثم دخلت سنة سبع ومائتين:
في هذه السنة توفي طاهر بن الحسين في جمادى الأولى، من حمى أصابته، وكان في آخر جمعة صلاها، قد ترك الدعاء للمأمون، وقصد لمن يخلعه فمات، وكان طاهر أعور، ويلقب ذا اليمينين وفيه يقول بعضهم:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ** نقصان عين ويمين زائدة

وفي هذه السنة توفي بشر بن عمرو الزاهد الفقيه، وهو غير بشر الحافي. وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي، وعمره ثمان وسبعون سنة، وكان عالماً بالمغازي واختلاف العلماء، وكان يضعف في الحديث، وللواقدي عدة مصنفات، وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكان الواقدي متولياً القضاء بالجانب الشرقي من بغداد.
وفيها توفي محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى، المعروف بابن كناسة، وهو ابن أخت إبراهيم بن الأدهم، وكان عالماً بالعربية والشعر وأيام الناس.
وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله، المعروف بالفراء الديلمي الكوفي، وكان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب وكان في ذلك إماماً. قال الجاحظ: دخلت بغداد في سنة أربع ومائتين، حين قدم إليها المأمون، وكان الفراء يحبني ويشتهي أن يتعلم شيئاً من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع، واتخذ المأمون الفراء معلماً لأولاده، وللفراء عدّة مصنفات منها، كتاب الحدود، وكتاب المعاني، وكتابان في الشكل، وكتاب النهي، وغير ذلك، وكانت وفاته بطريق مكة حرسها الله تعالى، وعمره نحو ثلاث وستين سنة، ولم يكن الفراء يعمل الفراء ولا يبيعها، بل تلقب بذلك لأنه كان يفري الكلام.
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين:
فيها مات الفضل بن الربيع.
ثم دخلت سنة تسع ومائتين:
فيها مات ميخائيل ملك الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملك بعده ابنه توفيل.
وفيها توفي أبو عبيدة محمد بن حمزة اللغوي، وكان يميل إلى مقالة الخوارج، وعمره تسعٍ وتسعون سنة، وكان متفنناً في العلوم، وكان مع كمالَ فضائله، إذا أنشد شعراً كسره، ولا يحسن يقيم وزنه، وبلغت مصنفاته نحو مائتي مصنف.
ثم دخلت سنة عشر ومائتين:
في هذه السنة ظفر المأمون بإبراهيم بن محمد ابن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، وكان يعرف بابن عائشة، وبجماعة معه من الأعيان الذين كانوا قد سعوا في البيعة لإبراهيم بن المهدي، فحبسهم، ثم صلب ابن عائشة، وهو أول عباسي صُلب، ثم أنزل وكفن وصلي عليه ودفن.
ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة أعني سنة عشر ومائتين في ربيع الآخر، أمسك حارس أسود إبراهيم بن المهدي، وهو متنقب مع امرأتين، في زي امرأة وأحضر بين يدي المأمون، فحبسه، ثم بعد ذلك أطلقه، قيل شفع فيه الحسن بن سهل؛ وقيل ابنته بوران وقيل بل المأمون من نفسه عفا عنه.
وفي هذه السنة دخل المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وكان الحسن ابن سهل مقيماً في فم الصلح فسار المأمون من بغداد إلى فمٌ الصلح، ودخل بها ونثرت عليه جدة بوران أم الحسن والفضل ألف حبة لؤلؤ؛ من أنفس ما يكون، وأوقدت شمعة عنبر، فيها أربعون منا، وكتب الحسن بن سهل أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد، فمن وقع له رقعة، أخذ الضيعة المسماة فيها، أقول: قد تقدم في سنة ثلاث ومائتين، أن الحسن بن سهل تغير عقله من السوداء، وقيد وحبس وكأنه بعد ذلك تعافى وعاد إلى منزلته، ولكن لم يذكروا ذلك.
وفي هذه السنة ماتت علية بنت المهدي، ومولدها سنة ستين ومائة وكان زوجها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين:
فيها أمر المأمون منادياً فنادى: برأت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر. وفيها توفي أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش النحوي البصري والأخفش: الصغير العينين مع سوء بصرهما. وكان من أئمة العربية البصريين، وأخذ النحو عن سيبويه، وكان أكبر من سيبويه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا بعد أن عرضه عليّ، وللأخفش المذكور عدة مصنفات وهو الذي زاد في العروض بحر الخبب، والذين يسمون بالأخفش ثلاثة، أولهم: الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد، من أهل هجر، وكان نحوياً أيضاً. ثم الأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة الإمام المذكور. ثم الأخفش الأصغر المتأخر، وهو علي بن سليمان بن الفضل، وكان الأخفش الأصغر المذكور، نحوياً أيضاً، وتوفي في سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة وثلاثمائة،
وفيها توفي عبد الرزاق الصغاني المحدث وهو من مشايخ أحمد بن حنبل، وكان يتشيع.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين:
فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفي محمد بن يوسف الضبي، وهو من مشايخ البخاري.
ثم دخلت سنة ثلاث عشر ومائتين:
فيها ولى المأمون ابنه العباس الجزيرة والثغور والعواصم، وولى أخاه أبا إسحاق المعتصم الشام ومصر، وولى غسان بن عباد على السند.
وفيها توفي إبراهيم الموصلي المغني، وكان كوفياً، وسار إلى الموصل، وعاد، فقيل له الموصلي.
وفيها مات علي بن جبلة الشاعر، وأبو عبد الرحمن المقرئ المحدث.
وفيها وقيل في سنة ثماني عشرة ومائتين، توفي بمصر أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، وهذا ابن هشام، هو الذي جمع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغازي والسير، لابن إسحاق وهذ بها وشرحها السهيلي، وابن هشام المذكور، من أهل مصر، وأصله من البصرة.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين:
فيها استعمل المأمون، عبد الله بن طاهر على خراسان.
وفيها صلح حال أبي دلف مع المأمون، وكان أبو دلف من أصحاب الأمين، وقدم على المأمون وهو شديد الخوف منه، فأكرمه وأعلى منزلته.
وفيها وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين، توفي إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمغرب، وقام بعده ابنه محمد بن إدريس بفاس والبربر، وولى أخاه القاسم بن إدريس طنجة وما يليها، وولى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وولى أخاه داود هوارة بأسليب، وولى أخاه يحيى مدينة داني وما والاها. واستعمل باقي أخوته على ملك البربر، وسنذكر أخبار باقي الأدارسة في سنة سبع وثلاثمائة إن شاء الَله تعالى.
وفيها توفي أبو عاصم بن مخلد الشيباني، وهو إمام في الحديث.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين:
فيها سار المأمون لغزو الروم، ووصل إلى منبج ثم إلى إنطاكية، ثم إلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إلى بلاد الروم، في جمادى الأولى، ففتح حصوناً، ثم عاد وتوجه إلى دمشق. وفي هذه السنة توفي أبو سليمان الداراني الزاهد؛ توفي بداريا، ومكي بن إبراهيم البلخي وهو من مشايخ البخاري، وأبو زيد سعيد النحوي اللغوي وعمره ثلاث وتسعون سنة. وفيها توفي أبو سعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل في سنة ست عشرة، وقيل في سنة سبع عشرة ومائتين، واسم الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن صالح، وكان عمره نحو ثمان وثمانين سنة، والأصمعي نسبة إلى جده أصمع، وكان أياماً في الأخبار والنوادر واللغة، وله عدة مصنفات منها: كتاب خلق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الأنواء، وكتاب الصفات، وكتاب الميسر والقداح، وكتاب خلق الفرس، وكتاب خلق الإبل، وكتاب الشاء، وكتاب جزيرة العرب، وكتاب النبات، وغير ذلك، وقُرَيب- بضم القاف وفتح الراء المهملة وياء مثناة من تحتها ساكنة ثم باء موحدة من تحتها.
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين:
فيها سار المأمون إلى بلاد الروم فقتل وسبى وفتح عدة حصون، ثم عاد إلى دمشق، ثم سار المأمون في هذه السنة في ذي الحجة من دمشق إلى مصر، وفي هذه السنة ماتت أم جعفر زبيدة ببغداد.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين:
فيها عاد المأمون من مصر إلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، وأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عائداً وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم تتم.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين:
ما كان في أمر القرآن المجيد في هذه السنة كتب المأمون إلى عامله ببغداد، إسحاق بن إبراهيم أن يمتحن القضاة والشهود، وجميع أهل العلم بالقرآن، فمن أقر أنّه مخلوق محدث، خلى سبله، ومن أبى يعلمه به، ليرى فيه رأيه، فجمع أولي العلم الذين كانوا ببغداد، منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وعلي بن الجعد وغيرهم. وقرأ عليهم كتاب المأمون، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال بشر: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: والقرآن شيء؟ قال: نعم. قال: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس عن هذا أسألك، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك. فقال إسحاق للكاتب: اكتب ما قال. ثم سأل غيره وغيره، فيجيبون قريباً مما أجاب به بشر.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليها. ثم قال له: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال أحمد: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثم سأل قتيبة، وعبيد الله بن محمد، وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت وهب بن منبه، وجماعة معهم، فأجابوا أنّ القرآن مجعول لقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} [الزخرف: 3] والقرآن محدث لقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء: 2] قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قالوا: نعم. قال فالقرآن مخلوق؟ قالوا: لا نقول مخلوق، ولكن مجعول.
فكتب مقالتهم، ومقالة غيرهم، رجلاً رجلا، ووجهت إلى المأمون، فورد جواب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم، أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فإن قالا بخلق القرآن وإلا تضرب أعناقهما، وأما من سواهما، فمن لم يقل بخلق القرآن، يوثقه بالحديد، ويحمله إلي فجمعهم إسحاق، وعرض عليهم ما أمر به المأمون، فقال بشر وإبراهيم وجميع الذين أحضروا لذلك؛ بخلق القرآن، إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، والقواريري، وسجادة، ومحمد بن نوح المصروب، فإنهم لم يقولوا بخلق القرآن فأمر بهم إسحاق، فشدوا في الحديد، ثم سألهم، فأجاب سجادة والقواريري إلى القول بخلق القرآن، فأطلقهما، وأصر أحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح المصروب على قولهما؛ فوجههما إلى طرسوس، ثم ورد كتاب المأمون يقول: بلغني أن بشر بن الوليد، وجماعة معه، إنما أجابوا بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] وقد أخطؤوا التأويل، فإن الله تعالى عنى بهذه الآية، من كان معتقداً للإيمان، مظهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان. فليس هذا له، فأشخصهم إلى طرسوس ليقيموا بها، إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأمسكهم إسحاق وأرسلهم، فلما صاروا إلى الرقة، بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.
مرض المأمون وموته رحمه الله تعالى:
في هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة ومائتين، مرض المأمون لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وكان سببه ما حكاه سعيد بن العلاف قال: دعاني المأمون، وهو وأخوه المعتصم جالسان على شاطئ نهر البدندون، وقد وضعا أرجلهما في الماء، فقال لي: أي شيء يؤكل ليشرب عليه من هذا الماء، الذي هو في نهاية الصفاء والعذوبة؟ قال: أمير المؤمنين أعلم، فقال: الرطب، فبينما هم في الحديث، إذ وصلت بغال البريد، عليها الحقائب، وفيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إن كان في هذه الألطاف رطب، فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما رطب من أطيب ما يكون، فشكر الله تعالى، وتعجبنا جميعاً، وأكل وأكلنا من ذلك الرطب، وشربنا عليه من ذلك الماء، فما قام منا أحد إلا وهو محموم، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، ولما مرض المأمون، أوصى إلى أخيه المعتصم، بحضرة ابنه العباس، بتقوى الله تعالى، وحسن سياسة الرعية، في كلام حسن طويل، ثم قال للمعتصم: عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله، لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذا أنا نقلتها من غيرك إليك. قال: اللهم نعم. ثم قال: هؤلاء بنو عمك ولد أمير المؤمنين علي، صلوات الله عليه، أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة، عند محلها، وتوفي المأمون في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بدار جلعان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافة المأمون عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً سوى أيام دعي له بالخلافة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف منٍ ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها، قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر، أحنى، أعين، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
بعض سيرته وأخباره لما كان المأمون بدمشق، قل المال الذي صحبته، حتى ضاق وشكى ذلك إلى المعتصم، فقال له يا أمير المؤمنين: كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وحمل إليه المعتصم ثلاثين ألف ألف ألف، من خراج ما يتولاه له، فلما ورد ذلك، قال المأمون ليحيى بن أكتم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال فخرجا ونظرا إليه، وقد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فاستكثر المأمون ذلك، واستحسنه، واستبشر به الناس، والناس ينظرون ويتعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، ويرجع أصحابنا خائبين. إن هذا للؤم، فدعا محمد بن رداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ألف؛ ورجله في الركاب، وكان المأمون ينظم الشعر، فما يروى له من أبيات:
بعثتك مرتاداً ففزتَ بنظرة ** وأغفلتني حتى أسأتُ بك الظنّا

فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ** فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى

أرى أثراً منها بعينيك بيْنا ** لقد أخذت عيناكَ من عينها حُسنا

وكان المأمون شديد الميل إلى العلويين، والإحسان إليهم رحمه الله تعالى، ورد فدك على ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمها إلى محمد ابن يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ليفرقها على مستحقيها من ولد فاطمة، وكان المأمون فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة.